عاممقال رئيس التحرير

نبيل فكري .. يكتب: في قلب العاصفة .. كلنا «ياسين» .. وهذا ما يحدث في «الكرمة»

طبيب أحبه، وأقدره، كتب على صفحته ما معناه: اللي يسيب ابنه أو بنته في مدرسة الكرمة يبقى راجل «ديوث» ومراته «شمال» .. آه والله كاتب كده.
وفيه واحد كمان أُحبه وأقدره كاتب علي صفحته٬ «أي واحد بيعدي من قدام مدرسة الكرمة أو يعرف حد يعرف حد بيعدي من قدام مدرسة الكرمة يغادر صفحتي لأني ما يشرفنيش أعرفه».
…… دا المشهد الأول …..
في المشهد الثاني: واحد «متأعلم» (عامل فيها إعلامي يعني) يحث المحامين أن يتضامنوا معاه علشان يقفلوا مدرسة الكرمة، وطبعاً متابعوه أعلنوا «النفير العام».
وواحد آخر «مستخف» دمه، كتب يطلب من أصحابه في دمنهور اللي في مدرسة الكرمة أو اللي زاروها أو مروا من شارعها أن يكشفوا على نفسهم عند دكتور، علشان «يطمئن قلبه».
في المشهد الثالث، وبعدما هدأت العاصفة أعلن أحدهم وهو صديق عزيز والمفروض أنه متزن ومحترم، عودة الحياة لطبيعتها (لف وارجع تاني) بما اعتبره نكتة أو خفة دم، فتباهى بأن الرجالة في البحيرة  صحتها «بمب» وإننا عشرة على عشرة، حين سأله آخر من محافظة أخرى، عن «الذئب الثمانيني» وكيف لا زالت لديه قدرة على تلك الأفعال رغم أنه بلغ من العمر أرذله.
………
نقطة ومن أول السطر .
تلك هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن أزمة مدرسة الكرمة، وغالباً الأخيرة، ما لم يكن رداً أو تعقيباً على تعقيب، وقد آثرت أن أنتظر للأن، أولاً حتي يصدر حكم القضاء الذي هو عنوان الحقيقة، وثانياً حتى لا أشارك في تلك «المكلمة» التي دارت على مدار أيام بحلوها ومرها، صحيحها وباطلها، شرها وخيرها.
والحقيقة أن الأزمة كانت كاشفة عن أشياء مقيتة ومفزعة، فالحادث جلل وخطير والإثم مضاعف وما ارتكبه العجوز مفجع ومؤلم، لكنه ليس جديدًا على أيامنا البائسة تلك، أو على أحوالنا المتردية هذه الأيام .. حدث ويحدث وطالما نحن كذلك سيحدث.
في تلك الأزمة، كنا جميعاً «ياسين» سواء تضامُنًا أو رمزًا، كنا منتهكون من أطراف كثيرة، ممن ادعوا أنهم إعلاميون وليسوا كذلك .. ممن باشروا الوصاية علينا من دون حق .. ممن تصوروا أنهم أطباء نفسيون وهم مرضى .. من أمناء ليسوا أمناء، من نائب لا يعرف مهامه .. من تافهين مارسوا كل أشكال الضلال تحت مسمى الفضيلة، وبينهم كان «الشيطان» يشبهه ويفعل ما يفعل، لكنه ركب الموجة في أزمة انتصر فيها «الترند»، حتى لو كانت النهاية حق، والمؤبد حق.
«الترند» الآن ينتهي إلى ما يريد .. فقط حاول أن تجيّش الجيوش، وتستفز الصفحات وتحصد اللايكات والتعليقات، وحين تركب الموجة، لن تعود إلا بما تريد وربما أكثر مما تريد.
لا أعني أبداً التقليل من مصاب «ياسين»، ولا من بطولته وبطولة أسرته التي فعلت ما يجب أن تفعله كل أسرة مصرية، ليس فقط حيال تجاوز على صغيرها، وإنما حيال كل قضاياها وهمومها .. أن ندافع بهذا الشكل وبهذا الإصرار، قطعًا سننتصر.
أمس، بينما أَهُمُّ بالكتابة، قرأت هذا النبأ عن فتاة عمرها 16 عاماً أنهت حياة شقيقتها ذات الـ 13 عاماً، خنقاً في القليوبية، لخلاف على ريموت التليفزيون .. ما علاقة هذه بتلك ؟ .. العلاقة وطيدة .. تلك أيامنا التي صنعناها .. هذا ما جنت أيدينا .. أصبحنا نغالي في كل شيء .. في ضحكنا وفي بكائنا، في جرحنا وفي قتلنا .. في عبثنا وهزلنا .. في حوادثنا التي تقطع، وأغانينا القبيحة وصورنا الأقبح .. في حالنا «الزفت» الذي لا يرضينا لكننا نُصر عليه.
ما الذي اختلف فيه «شيطان» الكرمة، عن «بعرور» كفر الدوار، الذي اعتدى على أطفال في صالة بلياردو، وصورهم بالفيديو .. قطعاً ليس أن هذا مسلم وذاك مسيحي، لكن لأن ذاك «ركب التريند» (حظه كدة وظروفه كده)، وطبعاً ملابسات «ذئب الكرمة» كانت أنكى، فقد جرت أحداثها في محراب علم، من المفترض أنه أمن وأمان.
يقيني أن الذي أجج نيران الأزمة، التي تستحق التأجيج هو أن التعامل معها من البداية، اتسم بـ «الطرمخة» على قول رجل الشارع، بمحاولات «دفن الموضوع» ولذلك حينما عاد للواجهة، عاد قوياً عاصفاً، لم تصمد في طريقه أية محاولة لاحتواء الأمر، لأن هذا الأمر بالذات ليس بالممكن أن نحتويه ولا أن نسكت عليه، ولا أن نتوسط للصلح بين طرفيه.
والآن بعد أن صدر الحكم، وهو عنوان الحقيقة، حتى لو تلاه نقض واستئناف، أرى مجموعة من الإجراءآت التي لابد من اتخاذها، على الأقل لتستريح القلوب، وأولها قد حدث بإقالة مديرة المدرسة، التي يجب أن يتم التحقيق معها أيضاً، هي و«العاملة» و«المُدَرِّسة» لبيان إن كانت لهن يد أم لا، التحقيق معهن كشركاء في الجريمة.
وثاني الإجراءآت إقالة مجلس أمناء المدرسة لأنه لم يكن أميناً أبداً طوال أكثر من عام، كانت خلالها الواقعة قد حدثت ولم يتحرك أي من «الأمناء» للضرب بيد من حديد على من اغتصب البراءة واستباحها.
وثالثها تغيير الإدارة بالكامل، ورابعها محاسبة وكيل وزارة التربية والتعليم، ومدير إدارة دمنهور التابعة لها المدرسة، وخامسها أن تقوم كل جهة على صلة بالأمر إشرافاً أو متابعةً أو تحقيقًا بمحاسبة المكلفين من قِبَلها، خاصة التربية والتعليم، وأيضاً الداخلية، التي قطعاً لن يمر ما حدث مرور الكرام عليها، ويقيني أنها تابعت بروية تفاصيل الأحداث التي جرت، وقرَأَت ما تم تداوله عن «التحريات» التي إن صحت لا تليق بها.
نصل إلى مدرسة الكرمة، وهل نغلقها أم لا؟ .. ورغم أنه سؤال عبثي لا طائل منه، ولن يحدث أن تُغلق المدرسة، لكن لنناقش أولئك الذين يطرحون هذا السؤال أو تلك الأمنية، ويلبسونها أردية شتى، إما رداء الدين، وكيف نربي أبناءنا في مدرسة تابعة للكنيسة، أو كيف نبقيهم بعد ما حدث، وغيرها من الأسئلة التي لا أجيب عنها، وإنما أطرح وجهة نظري بخصوصها في نقاط محددة.
أولاً: مسألة المدارس التابعة للكنيسة، قديمة، ومدرسة الراهبات في دمنهور على سبيل المثال كانت نموذجاً تعليمياً مبهراً، قدمت لدمنهور سيدات مجتمع فضليات، بشهادة القاصي والداني، يعرفن الأصول والأدب والاحترام، وهناك مدارس الفرانسيسكان بالإسكندرية، ومدارس الفُرير في أكثر من مكان، وغيرها من المدارس التي تخرج منها رموز كثيرون.
ثانياً: أحد أولادي طالب في مدرسة الكرمة، لم يلتحق بها إلا بعد محاولات مستميتة، ورغم محاولاتي وأنا والده ولديّ معارفي، لكنهم كانوا عند ذكر «الكرمة» يتعللون بعدم قدرتهم على التدخل، نظراً لإجراءاتها الصارمة، والتحق بالمدرسة بعد ثلاث مرات على قائمة الانتظار، وبالمناسبة «أنا أزهري» فلا يزايد عليّ أحد رافعاً لواء الدين ومعرفة الأصول والفقه والتفسير.
ثالثاً: قضى ابني قبل «الكرمة» عامين في مدرستين، إحداهما خاصة والثانية تجريبية للغات، لم يُحصّل خلالهما شيئاً ولم يتعلم شيئاً ولم يكن مثلاً نموذجا في الالتزام والانضباط، باختصار كانا عامين دون طائل ودون جدوى، ومنذ التحق بالكرمة ومستواه التعليمي جيد جداً، ولا يحصل علي دروس خصوصية سوى في مادة واحدة، ولم يأت إلينا يتحدث عن «الرب» ولا عن «الصليب»، وأحياناً يعود وقد صلى الظهر في مسجد المدرسة .. نعم هناك مُصلى بمدرسة الكرمة.
رابعاً: لا أزعم أن «الكرمة» أفضل مدرسة ولا الأروع، ولا الأطهر، ولا الأنقى، لكن الانضباط فيها كان جيداً، وما حدث من «شيطانها صبري» يمكن أن يحدث في أماكن أخرى، حدث في حمام عمومي، وفي صالة بلياردو، وحدث في البيوت، فلن نغلق الحمامات العمومية، ولن يبرح الناس بيوتهم التي أخطأوا فيها، كما فعل العم الذي واقع ابنة أخيه وحملت منه سفاحاً.
ولستُ هنا في معرض تبرئة مسيحي على حساب المسلمين، فالخطيئة واحدة، والمسلمون أَوْلَى بالعدل وبقول الحق .. وإن كنتم صادقين في أنكم لا تريدونها فتنة، فليكن حكمكم كذلك وليعكس كلامكم حقيقة ما تُكِن صدُوركم .. ما حدث في الكرمة يحدث في شوارعنا وفي بيوتنا ونعيش أحداثَه كل يوم، ولو هدمنا كل مكان شهد خطيئة أو أغلقناه، ربما لن يبقى حولنا شيء.
خامساً: كنت دوماً أجاهد من أجل ألا يتحدث في أي أمر سوى أهله، وفي قضية كتلك، كان الأولى أن يتحدث أهل القانون والأطباء النفسيون، والإعلاميون بممارسة التغطية الحيادية المجردة ليس إلا، لكن الجميع تحدث وأفاض .. وللأسف «الفيس بوك» منح الأسلحة لكل أخرق، فالكل باتوا شجعاناً يحاربون بـ«الكيب وورد»، والكل أصبحوا إعلاميين ينظّرون ويؤججون النار، ومؤكد أن الحكم الذي صدر كان بمعزل عن كل هذا «الهري».
سادساً: ثلاثة أرباع العاملين بالكرمة على الأقل ملسمون، وثلاثة أرباع الطلاب على الأقل كذلك، ومناهج المدرسة هي ذاتها مناهج التربية والتعليم، دون زيادة أو نقصان.
أخيراً .. اهدأوا، فهذا الوطن يستحق منا أن نهدأ، وأن نُحَكّم العقول مع القلوب .. حصل المخطيء على جزائه، فلا تلعبوا بالنار ولا تكونوا أداة لمن لا يريد لهذا الوطن خيراً وأنتم لا تعلمون .. والأهم اجعلوا من هذه الأزمة فرصة كي نعود .. نعم نعود .. نحن غادرنا منذ سنوات ولم نعد للآن .. لسنا نحن الذين كنَّا هنا قبلاً .. لا أدري ماذا أصابنا ولا أدري حقاً كيف نعود .. ليتنا نعود.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى